بسم الله الرحمن الرحيم
هذه المدونه هى جزء من شخصيات ابناء اسيوط التى سوف اقوم بعملها على هذه المدونه وهى تتناول شخصيتين فى تاريخ الادب العربى المعاصر
يرجع مستجاب بذور الكتابة عنده إلي أبيه وخاله. وكان أبوه يحفظ السيرة الهلالية، ويترنم بها همسا، ويصحبه معه ليلا إلي الحقول البعيدة ليلتقي بأبي زيد الهلالي والجازية ودياب بن غانم ويناصر القبائل بـ «تونس» الخضراء. وكان خاله قد تخرج في مدرسة المعلمين، وكان يلقي قصائد المديح عند استقبال القرية للمديرين مثل مدير الري أو مدير المعارف. وفي بيته مجلات «الرسالة» و«آخر ساعة» فان يزوره ليتفرج عليها ولا يفهمها، وهو الذي ألحقه بالمدرسة.
وانقطع مستجاب عن التعليم، وخرج من «ديروط الشريف» سعيا وراء رزقه. واشتغل في أعمال متفرقة حتي وجد نفسه في السد العالي منذ يوليو 1964. وكان قد أدمن القراءة، فقرأ لـ «يوسف إدريس» و«صبري موسي» و«النهر» لـ «عبدالله الطوخي»، و«السائرون نياما» لـ «سعد مكاوي»، ثم عرف «يحيي حقي» و«همنجواي» وغيرهم.
وعندما أحس الرغبة في الكتابة، كتب اعترافا متخيلا متأثرا بروايات إحسان عبدالقدوس، وأرسله إلي مصطفي محمود الذي كان يحرر باب «اعترفوا لي» بمجلة «صباح الخير». وفوجئ بنشره، وتعاطف المحرر مع «كاتبته ذات الأسلوب الجميل». وواصل كتابة الاعترافات طيلة ست سنوات. وكانت اعترافاته تنشر بعد ذلك في كتب أنيقة باسم مصطفي محمود.
والتقي بعد هزيمة 1967 بالكاتب المسرحي علي سالم الذي كان يعمل في قصر ثقافة أسوان. وأراد أن يصبح كاتبا مسرحيا مثله، فكتب مسرحية لم يرض عنها علي سالم ونصحه بالاتجاه إلي الرواية. ولا ينكر الفضل إلا ابن الحرام. وظل مستجاب يذكر أن الذي وجهه إلي فن القص هو علي سالم كلما سئل عن سنوات التكوين. كما كان يذكر ضياء الشرقاوي عندما كان يسأل عن سنوات النضج. وسنشير إلي ذلك فيما بعد.
لكن الأصيل الذي لا ينسي الجميل، لا ينسي ـ أبدا ـ تغيير المواقع أو المواقف. لهذا فقد أراد علي سالم أن يخطب وده في المؤتمر المرتجل عن «حرية الفكر والتعبير» الذي أقيم باتحاد الكتاب في التاسع والعشرين من أبريل 1997، فرده مستجاب ردا موجعا ساخرا بطريقته المعروفة.. وهنا، خرج مدحورا.
وبعد كتابة الاعترافات أحس بالرغبة في كتابة قصة قصيرة، فكتب «الوصية الحادية عشرة» التي نشرها رجاء النقاش في مجلة «الهلال» (أغسطس 1969) ثم قصة «فصل من قصة حب» التي نشرت بنفس المجلة في ديسمبر من نفس العام. وعندما استقر في القاهرة في بداية السبعينيات كان قد نشر حوالي خمس قصص. وحين اشتغل بمجمع اللغة العربية وجد نفسه وجها لوجه أمام محمد عبدالحليم عبدالله الذي قرأ له صبيا.
كان يقرأ في تلك الفترة لإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وهو يسابق الحروف. وعندما يصل إلي محمد عبدالحليم عبدالله يقرأه بهدوء وتركيز. كان يعشقه ويحفظ بعض عباراته، وبعد أن خالطه بالمجلس شعر أنه شديد العطف علي الفقراء. وأنه يعتز بنفسه أيما اعتزاز. وربما يفسر ذلك سبب وفاته. فقد توفي بأزمة قلبية علي مشارف مسقط رأسه «كفر بولين» بالبحيرة، أثناء مشادة كلامية بين ركاب سيارة أجرة وسائق سليط اللسان. ولم يكن يميل إلي أمين يوسف غراب، وكان يبتكر الطرائف للنيل منه ومن كتاباته.
هو والنقاد
وتناول أعماله العديد من الدارسين، لعل أهمهم هو الدكتور عبدالقادر القط الذي ناقش أولي مجموعاته «ديروط الشريف» بمجلة «إبداع» (مارس 1985) ورأي أنه كاتب حقق لنفسه مكانة مرموقة بين كتاب القصة القصيرة. وتميز تجربته واضح علي نحو يلفت النظر، ويدعو إلي التأمل، إذ تصور أغلب القصص مجتمعا فريدا يمارس الناس فيه الجريمة كما يمارسون الطعام والشراب والقيام والقعود والكلام، ولا يقول العمل، فليس للعمل في حياتهم وجود، وليس للحب في نفوسهم مكان، وكذلك الصلات الإنسانية السوية. وفي مثل هذا المجتمع لا يكون «الفرد» مادة صالحة للقصة إلا إذا كان ـ علي الرغم من أنه فرد ـ ممثلا لأخلاق الجماعة وطقوسها في ممارسة الجريمة. وتصبح «الجماعة» التي يرصد الراوي نشاطها من موقفه خارج الأحداث محورا لأغلب القصص.
وتتجلي الجريمة الجماعية في القصة الدامية «موقعة الجمل». ويتتبع الكاتب في رسمه لطقوس الجريمة أسلوبا من السخرية المرة تنطق بها طبيعة الأحداث أو عنوانها دون تعليق. وقد يزيد وضوح السخرية أحيانا من خلال بعض المواقف وبعض الحوار الذي يستتر وراءه الكاتب كما في قصة «اغتيال». ويتعمد الكاتب التجهيل بالاكتفاء بالحروف بدلا من أسماء الشخوص، ليؤكد الطبيعة الجماعية المألوفة للجريمة دون اهتمام ببواعثها أو وجودها النفسي، معبرا في سخرية لا تخفي عن أن هؤلاء القوم الذين جلسوا ليقرروا جريمة اغتيال لا يجدون أدني مفارقة بين أدائهم الصلاة وتخطيطهم للجريمة فور خروجهم من المسجد.
وتفصح السخرية أحيانا عن شخصية الكاتب ـ أو الرواي الراصد لأحداث القرية ـ إما بالتعليق المباشر أو بعض الأساليب الفنية الأخري كروايته للجرائم المتلاحقة التي يغني تتابعها وطبيعتها عن التعليق. وتعظم السخرية ـ أحيانا ـ لتتحول إلي «كاريكاتير» يضحك بقدر ما يبعث علي الروع والدهشة، كما في قصة «كوبري البقيلي» حين يهبط غطاس في الماء بحثا عن سلاح الجريمة، فيخرج عظاما وجماجم جرائم أخري.
علي أن في المجموعة قصصا تخلو ـ أو تكاد ـ من القتل والدماء، وتتحول فيها الجريمة الجماعية إلي جريمة حضارية بينة الرمز إلي أوضاع اجتماعية وأخلاقية وسياسية معروفة في هذا العصر. وفي المجموعة قصتان متكاملتان من هذا الطراز تكاد تكون الواحدة وجها آخر للثانية من حيث الدلالة، وإن اختلفتا في المادة والموضوع، هما «القربان» و«عباد الشمس». علي أن إغراء «الكاريكاتير» والمبالغة والحرص علي الانتفاع بالمأثور الشعبي تدفع الكاتب إلي كثير من «التزيد». وقد تصبح «الثرثرة» خيوطا أساسية في نسيج القصة عند مستجاب حين لا تكون مقصودة لطرافتها أو لما تحمل من فكاهة، بل لكي تمهد لما يرمز إليه ختام القصة وتؤكد دلالته كما في قصة «حافة النهار».
ولعل أكثر قصص المجموعة إحكاما، وتحررا من شخصية الكاتب ودعاباته وطرائفه قصة «الفرسان يعشقون العطور». فهي ذات تصميم أقرب إلي تصميم القصيدة، وخلفية أحداثها. من مظاهر الطبيعة وحركة الإنسان والحيوان والطير تتناسق مع المواقف الثلاثة التي يصور كل منها مقدم فارس شجاع قد عقد العزم علي أن يقاتل الأميرة الفاتنة التي تربعت علي عرش القرية واغصبت حقوق أهلها. ويرتفع أسلوب القصة إلي مستوي التجريد الشعري للموضوع. وتؤدي المشاهد المبعثرة التي اعتاد الكاتب أن يسرف في استخدامها في القصص الأخري، غايتها الفنية والنفسية. وشبيه بهذا «التصميم» وإن جاء في رقعة أوسع ما يلحظه القارئ في قصة «الجبانة» وهي قصة رمزية ذات مقاطع ثلاثة.
المؤثر الأكبر
ويعد ضياء الشرقاوي أهم شخصية أثرت في حياة كاتبنا. كان مستجاب بحاجة إلي أبوّة شامخة، دقيقة، راقية، لئيمة، ساخنة، ووجد ذلك كله في ضياء الشرقاوي. ألقي ضياء كل ما كتبه مستجاب خلف ظهره، واصطحبه إلي الحفلات الموسيقية. بل إنه استعار «جراما فون» من الدكتور عبدالغفار مكاوي وأحضره إلي بيته ليسمع السينفوينات التي لم يكن يعرف عنها شيئا. فطهرت الموسيقي وجدانه وسرت في عروقه، وخلقته خلقا جديدا. وطلب منه أن يقرأ ديستوفسكي في ترجماته غير المختصرة، وأعاره «موبي ديك» لملفيل وكتب الرحالة الأوروبيين الذين زاروا مصر وفارس والهند. وطلب منه أن يعيد قراءة البير كامي وستندبرج وأونيل وصلاح عبدالصبور ونصوص من البلاد العربية إلي أن أصابه الإرهاق، وتوقف عن الكتابة. وهنا.. طلب منه أن يقرأ «الغصن الذهبي» لـ «فريزر». واشتعلت الموسيقي بالأساطير اليونانية والمصرية. وظل ضياء يرفض قصصه إلي أن كتب في مجلة «الثقافة» قصة أهداها إلي «مستجاب الذي يملك كل المستقبل».
الفارس الثانى محمود البدوى
المصدر : جريدة ( القاهرة ) ، العدد 273، 5 يوليو 2005.
مقدمـــــــة
اسمه الحقيقى كما تنطق به شهادة الميلاد محمود أحمد حسن عمر المولود فى 4 ديسمبر 1908 بقرية الأكراد مركز أبنوب بمديرية أسيوط .
كان والده وأعمامه وأجداده عمدا للقرية التى ولد فيها ، واشتهر باسم محمود البدوى ، ولقب البدوى أسبغه عليهم أهل القرية لما لمسوه من والده ووالدته من كرم حاتمى .
قام بتغيير اسمه إلى الاسم الذى اشتهرت به أسرته فى جميع الأوراق والمستندات الرسمية عام 1957 وقبل سفره مع البعثة الثقافية التى ضمت خيرة رجال التعليم فى مصر إلى الهند والصين واليابان فى ديسمبر سنة 1957 .
والدته إبنة عمدة إتليدم بمحافظة المنيا ، وشقيقها (خاله) الأديب إسماعيل عبد المنعم التونى الذى أخرج عدة كتب قصصية فى بداية القرن العشرين كان لها دوى وكان لبعضها فضل السبق فى مضمارها ، فقد لخص شكسبير وكان أول من فعل فى كتاب سماه على مسرح التمثيل ولخص موليير والف قصصا مصرية منها على سفح الجبل وعقد اللآلئ ، وابن عم والدته الأديب محمد شوكت التونى المحامى الذى أخرج عددًا كبيرا من القصص المصرية منها كتاب سماه « فى ظلال الدموع 1929» و« جهاد الأمم فى سبيل الدستور 1932» و«المحاماة فن رفيع 1958» و« محمد فى طفولته وصباه 1960» و« محمد محرر العبيد » وروايات مسرحية أخرى ، وله أقارب آخرون من ناحية الأم ، كل ميلهم منصب على الأدب القصصى .
كانت أمه ككل الأمهات فى ذلك العهد تتفاءل برؤية مولد الهلال .. وفى أول أيام الشهر الهجرى كانت تصعد به إلى سطح المنزل الواسع (بيت الوسية)* وترنو إلى الهلال وهى تقرأ بعض سور القرآن واضعة يدها على وجهه مقبلة جبينه .. داعية الله أن يقيه شرور الحياة .
ماتت والدته وهو فى السابعة من عمره ، ولأول مرة فى حياته يرى الموت يدخل البيت ، ومنظر النساء الباكيات حوله والذى يصدر عن عواطف صادقة .. حفر مظاهره الحزينة فى أعماقه .. وظلت الغمامة متأصلة فى نفسه وهو لا يدرى ، وهى التى جعلته يبغض الجنازات بغضا شديدا وحتى الأفراح.. كره كل التجمعات ، ومن موتها بدأت القتامة وهى التى جعلته يتجه بحواسه باستمرار إلى الناس المضطهدين المعذبين فى الحياة والذين يعانون، اتجه إلى ذلك بالفطرة .
التحق بالكتاب الملحق بمسجد الخطباء بالقرية ، وفيه تعلم القراءة والكتابة وحفظ بعض آيات القرآن الكريم ، ثم التحق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، ونزح إلى القاهرة والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة واختار لسكناه البنسيونات واللوكاندات واستقر أخيرا للإقامة بالغرف المفروشة التى كانت موجودة بكثرة فى حى عابدين وحى قصر النيل والتى كانت تتنازل عنها الأسر الأجنبية لتستعين بإيجارها على ظروف الحياة .
عرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ليتزود بالمعرفة فقرأ الأدب القديم والحديث ، ونوع وسائل الاطلاع ، ساعده على ذلك إجادته للغتين الإنجليزية والفرنسية فقرأ فى أشهر الروايات ولأكبر المؤلفين ، وكان يقرأ كل كتاب يقع تحت يده حتى ولو جاء من مخزن الدار بطريق الخطأ تمشيا مع الحكمة التى كانت مسطره على جدران الدار بالخط الفارسى "كل كتاب تقرأ تستفد" كما تعلم "وخير جليس فى الزمان كتاب" .
تعلم البدوى الموسيقى بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية وبعد الدراسة التمهيدية الطويلة ، إختار الكمنجة كآلة ، و"كان هذا كما يقول من سوء اختياره لأن دراستها صعبة" وكان يستعد لإمتحان البكالوريا بكل جهوده ، فأهمل الموسيقى وانقطع عن المعهد .
التحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إيان عمادة الدكتور طه حسين لها ، وقام بتأجير أول مسكن مستقل له بشارع الأمير بشير بالحلمية الجديدة وكان يقيم بالدار إقامة شبه دائمة ويجد لذته الكبرى فى القراءة والاطلاع فاستغرقت كل وقته وكان يشعر بالغبطة والسرور والرضى النفسى كلما قرأ شيئا جديدًا .
حينما تغلق دار الكتب أبوابها يمر فى طريقه إلى البيت على مجلة ومطبعة الرسول ، فيرى صديقه محمد على غريب (تعرف عليه فى مكتبة أدبية بمدينة أسيوط يمت له صاحبها بصلة قرابة وأصبح منذ عام 1935 صاحب مجلات صوت الإسلام وغريب وابن مصر) وصاحب المجلة والمطبعة الأستاذ محمود رمزى نظيم فى عمل متصل فيجلس يقرأ أو يكتب وهو مفتون بحروف الطباعة وما تخرجه على الورق من ضروب الكلام .
كتب محمود البدوى مقالة عن الموسيقى ونشرت على عامود فى مجلة الرسول سنة 1930 ، وكتب مقالة أخرى عن الموسيقى والغناء وخجل أن يقدمها لأحد منهما وتركها على المكتب فى المجلة وانصرف ، ونشرت المقالة فى العدد التالى وتلقى هدية من أمير الشعراء أحمد شوقى ــ مسرحيات "مجنون ليلى" و"مصرع كليوباترا" لأنه ذكر فى المقال موسيقيا شابا من طلبة المعهد .
أهمل البدوى دراسته بالجامعة وكان لا يذهب إليها إلا قليلا ثم انقطع كلية عنها .
لم يرغب فى أن يكون عالة على والده فى القرية ، فيطعمه ويكسيه ويصرف عليه بعد أن شب وأصبح رجلاً ، ولم يكن من السهل عليه أن يتبطل ويعتمد فى معيشته على ما يرسله له والده من نقود ، وقرر أن يفعل شيئا وأن يخطو خطوة عملية ، فإتجه إلى الوظيفة كغيره من الشبان وترك الدراسة بالجامعة ، ولم يأسف على ذلك قط .
التحق بالعمل بقلم حسابات الحكومة بوزارة المالية فى 12/3/1932 بمرتب سبعة جنيهات ونصف ، وعمل بمصلحة الموانى والمنائر بمدينة السويس.
صدرت مجلة الرسالة فى 15 يناير 1933 وكان البدوى يقرأ الأدب الروسى مترجما إلى اللغة الإنجليزية بقلم الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنيت، كان يقرأ قصة الجورب الوردى لتشيكوف وترجمها وأرسلها إلى أستاذه الزيات بمقر المجلة بشارع حسن الأكبر فى حى عابدين ، ونشرت بالعدد العشرين فى 1/12/1933 وشجعه ذلك على أن يترجم غيرها وغيرها وهو ما يزال فى الرابعة والعشرين من عمره وهى سن صغيرة نسبيا لأولئك الذين كانت تتاح لهم فرصة الكتابة والنشر فى مجلة الرسالة التى كان يعتبر النشر فيها فى ذلك الوقت بمثابة شهادة ميلاد أديب متميز .
كان البدوى وهو فى مدينة السويس يرى المراكب تحمل خليطا غير متجانس من البشر ذاهبة إلى أوربا ، فولدت عنده الرغبة الشديدة فى أن يركبها ويجوب الآفاق .
عاد من السويس فى عام 1934 للعمل بمقر الوزارة بميدان اللاظوغلى وذهنه مشغول بالسفر إلى أوربا ، وكثرت الإعلانات فى الصحف والمجلات المصرية والأجنبية تشجع القراء على السفر إلى البلاد الأوربية وبجنيهات قليلة، وكان البدوى فى وفرة شبابه وفتوته وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين ومعه من المال ما يكفيه للطواف حول العالم ــ كما يقول سنة كاملة ــ فالكساد والبطالة يعمان العالم والأسعار رخيصة فى كل مكان .
سافر البدوى على متن باخرة رومانية أقلعت من ميناء الإسكندرية إلى اليونان ثم تركيا وإلى رومانيا والمجر عبر نهر الدانوب فى 3 أغسطس 1934 وعلى الظهر "الدك" بسبعة جنيهات مصرية ذهابا وإيابا ، ولكنه لم ينم على الظهر واستأجر قمرة بحار فى السفينة بجنيهين طوال الرحلة ، وكان ينزل إلى القاع ويختلط بالبحارة والوقادين وهم يجرفون الفحم ويغذون النار ، كانت المراكب وقتها تدار بالفحم ، ويقصون عليه حياتهم فى البحار .
عاد من هذه الرحلة متفتح المشاعر للكتابة ، فكتب رواية الرحيل (وهى قصة شاب سافر إلى أوربا الشرقية على ظهر مركب ويحكى فيها مشاعره وأحاسيسه طوال الرحلة وانطباعه عن البلاد التى زارها) وطبعها على حسابه بالمطبعة الرحمانية بالخرنفش عام 1935 على ورق رومان أغلى أنواع الورق ولم يتجاوز طبع القصة الجنيهات العشر وبعد هذا أخذ ذهنه يفكر ويشغل بتأليف القصص وانقطع عن الترجمة .
بدأ الأستاذ الزيات يعرفه كمؤلف وينشر له قصصه فى مجلته التى كان يصدرها وحده ، وأول قصة نشرت له فى المجلة باسم "الأعمى" ونشرت فى عددين 156 و157 بتاريخ 29/6 و6/7/1936 وقد تعلم البدوى من أستاذه الزيات أشياء كثيرة لعل أهمها الصبر والجلد فى العمل .
وبعد النشر فى مجلة الرسالة بدأ البدوى ينشر فى مجلة العصور ومعظم الصحف والمجلات المصرية تقريبا ، ولم يتوقف عن النشر ولم يشعر باليأس إطلاقا ، وآخر قصة كتبها ونشرت له بصحيفة مايو باسم "السماء لا تغفل أبدًا" بالعدد 602 فى 4/3/1985 وعمره ستة وسبعون عاما .
هو الكاتب المصرى الوحيد ــ كما قال عنه النقاد والأدباء ــ الذى لم يكتب غير القصة القصيرة ، وكان بإمكانه أن يجرب الكتابة فى فنون أدبية أخرى قد تدر عليه ربحا طائلا وقد تسهم فى تسليط الأضواء عليه وفى شهرته وفى ذيوع صيته ، لكنه آثر الفن والصمت وحبذ التفرغ للإبداع وارتضى العزلة موئلا ، فلم يسع وراء الأحاديث الصحفية أو الإذاعية أو التليفزيونية كى تنشر صورة وأقواله وأخباره .
طاف البدوى على كثير من بلاد العالم الخارجى فى رحلات ثقافية وغير ثقافية ولكنه لم يكتب إلا عن تلك التى استطاعت أن تحدث فى داخله هزة عميقة واستطاع أهلها أن يؤثروا فى عقله ووجدانه ، فصور بعض قصصه فى اليونان وتركيا ورومانيا والمجر والهند والصين وهونج كونج واليابان وسوريا والمغرب .
ومن الأشياء التى لم يحد عنها فى حياته ، أنه لم يسع لتقديم قصصه لغير أديب ، ولم يقدم قصصه إلا لمن يطلب منه ولعل هذا سببه أنه صاحب حياء شديد منذ صغره ولم يكن جسمه ولا روحه يتحملان صدمة أى رد فعل فيه رفض من أى إنسان .
كانت رحلته الثقافية الأولى فى ديسمبر 1957 إلى الهند والصين واليابان وقد ضمت خيرة رجال التعليم فى مصر ، وألقى عدة محاضرات على طلبة جامعة بكين عن « القصة فى الأدب المصرى » و« الأدب المصرى » و«الأدب والصحافة بعد الثورة » ونشرت الصحف الصينية مقتطفات منها وأجزاء منها بصحيفة الشعب المصرية فى 11/12/1957 .
كانت فلسفته فى الحياة أن يغرس وردة مكان كل شوكة .
والحكمة التى آمن بها من خلال رحلته فى الحياة .. أن كل شىء باطل ولا يتبقى فى الحياة إلا المحبة والخير والجمال .
وكانت أحلامه .. أن يسود السلام البشرية .. وأن يتحرر العالم من الفقر والجوع والاضطهاد وذل العبودية ، وأن يتحقق للإنسان حريته ككائن بشرى خلقه الله حرًا كريما ( وأن تصل أمتى إلى غايتها من الرقى والحضارة والخير لبنيها والبشرية جمعاء ) .
وكانت أحلامه كما سطرها فى مقدمة مجموعته القصصية عذارى الليل (العذراء والليل) (كتب للجميع العدد 99 فبراير 1956) .. "وأمنيتى ونحن نعيش فى قلب الحضارة ، ونسير فى ركابها .. أن تتطور بنا الحياة فى المستقبل.. وأن نطبع من الكتاب الواحد مليون نسخة .. وأمنيتى فى هذه الساعة أن يصل هذا الكتاب إلى أيدى الناس الذين أحببتهم وصورت حياتهم فى القرية والمدينة .. فإن هذا من أعظم المباهج للفنان .."
وكان يقول .. " لا أتصور أن كاتبا ينقب فى حياتى بعد موتى .. وحتى إن حاول أحد ذلك .. لن يجد فى بيتى ولا فى أهل بيتى ما يعينه على فهم أى شىء " وهذا ما دفعنى بمشاركة زوجتى إبنة الأديب الراحل (إلى تجميع جميع المقالات التى كتبها سواء فى الصحف والمجلات أو بخط يده وكذلك جميع ما كتب عنه وتلقى الضوء على حياته الخاصة والأدبية ليستطيع الأدباء والنقاد تفهم أصل الصورة المنعكسة فى مرايا قصصه وكتاباته) .
ولد فى قرية الأكراد مركز أبنوب بمديرية (محافظة) أسيوط فى 4 ديسمبر 1908 .
قضى طفولته كلها فى الريف حتى شهادة الابتدائية حصل عليها من مدرسة أسيوط الابتدائية ، ولما جاء إلى القاهرة لمواصلة التعليم الثانوى بالمدرسة السعيدية كان حريصا على قضاء كل أجازاته بين الفلاحين .
التحق بكلية الآداب إبان عمادة الدكتور طه حسين وترك الدراسة والتحق بالعمل فى وزارة المالية عام 1932 .
أطلق عليه بعض النقاد والدارسين لقب تشيكوف العرب ولقب راهب القصة القصيرة ولقب فارس القصة القصيرة ولقب رائد القصة القصيرة .
كتب ما يزيد على 375 قصة نشرت جميعها بالصحف والمجلات المصرية والعربية بالإضافة إلى المجلات المتخصصة كالرسالة والقصة والثقافة والأديب والهلال .
اصدرت له دور النشر 25 كتابا .
له كتاب واحد فى أدب الرحلات عن رحلته إلى الصين واليابان وهونج كونج .
حصل على ميدالية الإنتاج الأدبى والفنى من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب لمساهمته فى المناسبات الوطنية عام 1956 عن قصة «الماس» المنشورة بصحيفة الشعب ــ العدد 171 فى 13/11/1956.
حصل على جائزة الجدارة فى الفنون عام 1978 .
منح جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1986 .
منح اسمه بعد وفاته على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1988 .
رحل فى 12/2/1986 .
قامت الأسرة فى شهر سبتمبر من عام 1999 بإهداء مكتبته الخاصة إلى الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية . وتضم مجموعات قيمة من الكتب الأدبية ودواوين الشعر والروايات العربية والأجنبية لتكون تحت نظر الباحثين والدارسين فى فنون الأدب (وفاء منها لما قدمته الدار فى بداية حياة البدوى الأدبية) ووضعت فى قاعة المكتبات المهداة .
هذه المدونه هى جزء من شخصيات ابناء اسيوط التى سوف اقوم بعملها على هذه المدونه وهى تتناول شخصيتين فى تاريخ الادب العربى المعاصر
وهم الكاتب محمود البدوى و محمد مستجاب
واليكم نبذه بسيطه من بعض الكتابات الوارده من الصحف وعلى صفحات النت
قام باعدادها وجمعها :
قام باعدادها وجمعها :
محمود غيط عبدالعال
(صحفى بجريدة المحور الجديد)
اسيوط - ابنوب
كنت قد قمت بأعداد هذه المدونه وانا طالب بكلية دار العلوم جامعة المنيا
والأن ساضيف اليها استاذنا الجليل وهو الاستاذ نعيم الاسيوطى الكاتب المسرحي (قريبا)
قصة صعود ابن ديروط الشريف
الفارس الاول محمد مستجاب.. والذين صنعوه
بقلم : محمد محمود عبد الرازق .
يرجع مستجاب بذور الكتابة عنده إلي أبيه وخاله. وكان أبوه يحفظ السيرة الهلالية، ويترنم بها همسا، ويصحبه معه ليلا إلي الحقول البعيدة ليلتقي بأبي زيد الهلالي والجازية ودياب بن غانم ويناصر القبائل بـ «تونس» الخضراء. وكان خاله قد تخرج في مدرسة المعلمين، وكان يلقي قصائد المديح عند استقبال القرية للمديرين مثل مدير الري أو مدير المعارف. وفي بيته مجلات «الرسالة» و«آخر ساعة» فان يزوره ليتفرج عليها ولا يفهمها، وهو الذي ألحقه بالمدرسة.
وانقطع مستجاب عن التعليم، وخرج من «ديروط الشريف» سعيا وراء رزقه. واشتغل في أعمال متفرقة حتي وجد نفسه في السد العالي منذ يوليو 1964. وكان قد أدمن القراءة، فقرأ لـ «يوسف إدريس» و«صبري موسي» و«النهر» لـ «عبدالله الطوخي»، و«السائرون نياما» لـ «سعد مكاوي»، ثم عرف «يحيي حقي» و«همنجواي» وغيرهم.
وعندما أحس الرغبة في الكتابة، كتب اعترافا متخيلا متأثرا بروايات إحسان عبدالقدوس، وأرسله إلي مصطفي محمود الذي كان يحرر باب «اعترفوا لي» بمجلة «صباح الخير». وفوجئ بنشره، وتعاطف المحرر مع «كاتبته ذات الأسلوب الجميل». وواصل كتابة الاعترافات طيلة ست سنوات. وكانت اعترافاته تنشر بعد ذلك في كتب أنيقة باسم مصطفي محمود.
والتقي بعد هزيمة 1967 بالكاتب المسرحي علي سالم الذي كان يعمل في قصر ثقافة أسوان. وأراد أن يصبح كاتبا مسرحيا مثله، فكتب مسرحية لم يرض عنها علي سالم ونصحه بالاتجاه إلي الرواية. ولا ينكر الفضل إلا ابن الحرام. وظل مستجاب يذكر أن الذي وجهه إلي فن القص هو علي سالم كلما سئل عن سنوات التكوين. كما كان يذكر ضياء الشرقاوي عندما كان يسأل عن سنوات النضج. وسنشير إلي ذلك فيما بعد.
لكن الأصيل الذي لا ينسي الجميل، لا ينسي ـ أبدا ـ تغيير المواقع أو المواقف. لهذا فقد أراد علي سالم أن يخطب وده في المؤتمر المرتجل عن «حرية الفكر والتعبير» الذي أقيم باتحاد الكتاب في التاسع والعشرين من أبريل 1997، فرده مستجاب ردا موجعا ساخرا بطريقته المعروفة.. وهنا، خرج مدحورا.
وبعد كتابة الاعترافات أحس بالرغبة في كتابة قصة قصيرة، فكتب «الوصية الحادية عشرة» التي نشرها رجاء النقاش في مجلة «الهلال» (أغسطس 1969) ثم قصة «فصل من قصة حب» التي نشرت بنفس المجلة في ديسمبر من نفس العام. وعندما استقر في القاهرة في بداية السبعينيات كان قد نشر حوالي خمس قصص. وحين اشتغل بمجمع اللغة العربية وجد نفسه وجها لوجه أمام محمد عبدالحليم عبدالله الذي قرأ له صبيا.
كان يقرأ في تلك الفترة لإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وهو يسابق الحروف. وعندما يصل إلي محمد عبدالحليم عبدالله يقرأه بهدوء وتركيز. كان يعشقه ويحفظ بعض عباراته، وبعد أن خالطه بالمجلس شعر أنه شديد العطف علي الفقراء. وأنه يعتز بنفسه أيما اعتزاز. وربما يفسر ذلك سبب وفاته. فقد توفي بأزمة قلبية علي مشارف مسقط رأسه «كفر بولين» بالبحيرة، أثناء مشادة كلامية بين ركاب سيارة أجرة وسائق سليط اللسان. ولم يكن يميل إلي أمين يوسف غراب، وكان يبتكر الطرائف للنيل منه ومن كتاباته.
هو والنقاد
وتناول أعماله العديد من الدارسين، لعل أهمهم هو الدكتور عبدالقادر القط الذي ناقش أولي مجموعاته «ديروط الشريف» بمجلة «إبداع» (مارس 1985) ورأي أنه كاتب حقق لنفسه مكانة مرموقة بين كتاب القصة القصيرة. وتميز تجربته واضح علي نحو يلفت النظر، ويدعو إلي التأمل، إذ تصور أغلب القصص مجتمعا فريدا يمارس الناس فيه الجريمة كما يمارسون الطعام والشراب والقيام والقعود والكلام، ولا يقول العمل، فليس للعمل في حياتهم وجود، وليس للحب في نفوسهم مكان، وكذلك الصلات الإنسانية السوية. وفي مثل هذا المجتمع لا يكون «الفرد» مادة صالحة للقصة إلا إذا كان ـ علي الرغم من أنه فرد ـ ممثلا لأخلاق الجماعة وطقوسها في ممارسة الجريمة. وتصبح «الجماعة» التي يرصد الراوي نشاطها من موقفه خارج الأحداث محورا لأغلب القصص.
وتتجلي الجريمة الجماعية في القصة الدامية «موقعة الجمل». ويتتبع الكاتب في رسمه لطقوس الجريمة أسلوبا من السخرية المرة تنطق بها طبيعة الأحداث أو عنوانها دون تعليق. وقد يزيد وضوح السخرية أحيانا من خلال بعض المواقف وبعض الحوار الذي يستتر وراءه الكاتب كما في قصة «اغتيال». ويتعمد الكاتب التجهيل بالاكتفاء بالحروف بدلا من أسماء الشخوص، ليؤكد الطبيعة الجماعية المألوفة للجريمة دون اهتمام ببواعثها أو وجودها النفسي، معبرا في سخرية لا تخفي عن أن هؤلاء القوم الذين جلسوا ليقرروا جريمة اغتيال لا يجدون أدني مفارقة بين أدائهم الصلاة وتخطيطهم للجريمة فور خروجهم من المسجد.
وتفصح السخرية أحيانا عن شخصية الكاتب ـ أو الرواي الراصد لأحداث القرية ـ إما بالتعليق المباشر أو بعض الأساليب الفنية الأخري كروايته للجرائم المتلاحقة التي يغني تتابعها وطبيعتها عن التعليق. وتعظم السخرية ـ أحيانا ـ لتتحول إلي «كاريكاتير» يضحك بقدر ما يبعث علي الروع والدهشة، كما في قصة «كوبري البقيلي» حين يهبط غطاس في الماء بحثا عن سلاح الجريمة، فيخرج عظاما وجماجم جرائم أخري.
علي أن في المجموعة قصصا تخلو ـ أو تكاد ـ من القتل والدماء، وتتحول فيها الجريمة الجماعية إلي جريمة حضارية بينة الرمز إلي أوضاع اجتماعية وأخلاقية وسياسية معروفة في هذا العصر. وفي المجموعة قصتان متكاملتان من هذا الطراز تكاد تكون الواحدة وجها آخر للثانية من حيث الدلالة، وإن اختلفتا في المادة والموضوع، هما «القربان» و«عباد الشمس». علي أن إغراء «الكاريكاتير» والمبالغة والحرص علي الانتفاع بالمأثور الشعبي تدفع الكاتب إلي كثير من «التزيد». وقد تصبح «الثرثرة» خيوطا أساسية في نسيج القصة عند مستجاب حين لا تكون مقصودة لطرافتها أو لما تحمل من فكاهة، بل لكي تمهد لما يرمز إليه ختام القصة وتؤكد دلالته كما في قصة «حافة النهار».
ولعل أكثر قصص المجموعة إحكاما، وتحررا من شخصية الكاتب ودعاباته وطرائفه قصة «الفرسان يعشقون العطور». فهي ذات تصميم أقرب إلي تصميم القصيدة، وخلفية أحداثها. من مظاهر الطبيعة وحركة الإنسان والحيوان والطير تتناسق مع المواقف الثلاثة التي يصور كل منها مقدم فارس شجاع قد عقد العزم علي أن يقاتل الأميرة الفاتنة التي تربعت علي عرش القرية واغصبت حقوق أهلها. ويرتفع أسلوب القصة إلي مستوي التجريد الشعري للموضوع. وتؤدي المشاهد المبعثرة التي اعتاد الكاتب أن يسرف في استخدامها في القصص الأخري، غايتها الفنية والنفسية. وشبيه بهذا «التصميم» وإن جاء في رقعة أوسع ما يلحظه القارئ في قصة «الجبانة» وهي قصة رمزية ذات مقاطع ثلاثة.
المؤثر الأكبر
ويعد ضياء الشرقاوي أهم شخصية أثرت في حياة كاتبنا. كان مستجاب بحاجة إلي أبوّة شامخة، دقيقة، راقية، لئيمة، ساخنة، ووجد ذلك كله في ضياء الشرقاوي. ألقي ضياء كل ما كتبه مستجاب خلف ظهره، واصطحبه إلي الحفلات الموسيقية. بل إنه استعار «جراما فون» من الدكتور عبدالغفار مكاوي وأحضره إلي بيته ليسمع السينفوينات التي لم يكن يعرف عنها شيئا. فطهرت الموسيقي وجدانه وسرت في عروقه، وخلقته خلقا جديدا. وطلب منه أن يقرأ ديستوفسكي في ترجماته غير المختصرة، وأعاره «موبي ديك» لملفيل وكتب الرحالة الأوروبيين الذين زاروا مصر وفارس والهند. وطلب منه أن يعيد قراءة البير كامي وستندبرج وأونيل وصلاح عبدالصبور ونصوص من البلاد العربية إلي أن أصابه الإرهاق، وتوقف عن الكتابة. وهنا.. طلب منه أن يقرأ «الغصن الذهبي» لـ «فريزر». واشتعلت الموسيقي بالأساطير اليونانية والمصرية. وظل ضياء يرفض قصصه إلي أن كتب في مجلة «الثقافة» قصة أهداها إلي «مستجاب الذي يملك كل المستقبل».
الفارس الثانى محمود البدوى
المصدر : جريدة ( القاهرة ) ، العدد 273، 5 يوليو 2005.
مقدمـــــــة
اسمه الحقيقى كما تنطق به شهادة الميلاد محمود أحمد حسن عمر المولود فى 4 ديسمبر 1908 بقرية الأكراد مركز أبنوب بمديرية أسيوط .
كان والده وأعمامه وأجداده عمدا للقرية التى ولد فيها ، واشتهر باسم محمود البدوى ، ولقب البدوى أسبغه عليهم أهل القرية لما لمسوه من والده ووالدته من كرم حاتمى .
قام بتغيير اسمه إلى الاسم الذى اشتهرت به أسرته فى جميع الأوراق والمستندات الرسمية عام 1957 وقبل سفره مع البعثة الثقافية التى ضمت خيرة رجال التعليم فى مصر إلى الهند والصين واليابان فى ديسمبر سنة 1957 .
والدته إبنة عمدة إتليدم بمحافظة المنيا ، وشقيقها (خاله) الأديب إسماعيل عبد المنعم التونى الذى أخرج عدة كتب قصصية فى بداية القرن العشرين كان لها دوى وكان لبعضها فضل السبق فى مضمارها ، فقد لخص شكسبير وكان أول من فعل فى كتاب سماه على مسرح التمثيل ولخص موليير والف قصصا مصرية منها على سفح الجبل وعقد اللآلئ ، وابن عم والدته الأديب محمد شوكت التونى المحامى الذى أخرج عددًا كبيرا من القصص المصرية منها كتاب سماه « فى ظلال الدموع 1929» و« جهاد الأمم فى سبيل الدستور 1932» و«المحاماة فن رفيع 1958» و« محمد فى طفولته وصباه 1960» و« محمد محرر العبيد » وروايات مسرحية أخرى ، وله أقارب آخرون من ناحية الأم ، كل ميلهم منصب على الأدب القصصى .
كانت أمه ككل الأمهات فى ذلك العهد تتفاءل برؤية مولد الهلال .. وفى أول أيام الشهر الهجرى كانت تصعد به إلى سطح المنزل الواسع (بيت الوسية)* وترنو إلى الهلال وهى تقرأ بعض سور القرآن واضعة يدها على وجهه مقبلة جبينه .. داعية الله أن يقيه شرور الحياة .
ماتت والدته وهو فى السابعة من عمره ، ولأول مرة فى حياته يرى الموت يدخل البيت ، ومنظر النساء الباكيات حوله والذى يصدر عن عواطف صادقة .. حفر مظاهره الحزينة فى أعماقه .. وظلت الغمامة متأصلة فى نفسه وهو لا يدرى ، وهى التى جعلته يبغض الجنازات بغضا شديدا وحتى الأفراح.. كره كل التجمعات ، ومن موتها بدأت القتامة وهى التى جعلته يتجه بحواسه باستمرار إلى الناس المضطهدين المعذبين فى الحياة والذين يعانون، اتجه إلى ذلك بالفطرة .
التحق بالكتاب الملحق بمسجد الخطباء بالقرية ، وفيه تعلم القراءة والكتابة وحفظ بعض آيات القرآن الكريم ، ثم التحق بمدرسة أسيوط الابتدائية ، ونزح إلى القاهرة والتحق بالمدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة واختار لسكناه البنسيونات واللوكاندات واستقر أخيرا للإقامة بالغرف المفروشة التى كانت موجودة بكثرة فى حى عابدين وحى قصر النيل والتى كانت تتنازل عنها الأسر الأجنبية لتستعين بإيجارها على ظروف الحياة .
عرف طريقه إلى دار الكتب المصرية بباب الخلق ليتزود بالمعرفة فقرأ الأدب القديم والحديث ، ونوع وسائل الاطلاع ، ساعده على ذلك إجادته للغتين الإنجليزية والفرنسية فقرأ فى أشهر الروايات ولأكبر المؤلفين ، وكان يقرأ كل كتاب يقع تحت يده حتى ولو جاء من مخزن الدار بطريق الخطأ تمشيا مع الحكمة التى كانت مسطره على جدران الدار بالخط الفارسى "كل كتاب تقرأ تستفد" كما تعلم "وخير جليس فى الزمان كتاب" .
تعلم البدوى الموسيقى بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية وبعد الدراسة التمهيدية الطويلة ، إختار الكمنجة كآلة ، و"كان هذا كما يقول من سوء اختياره لأن دراستها صعبة" وكان يستعد لإمتحان البكالوريا بكل جهوده ، فأهمل الموسيقى وانقطع عن المعهد .
التحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إيان عمادة الدكتور طه حسين لها ، وقام بتأجير أول مسكن مستقل له بشارع الأمير بشير بالحلمية الجديدة وكان يقيم بالدار إقامة شبه دائمة ويجد لذته الكبرى فى القراءة والاطلاع فاستغرقت كل وقته وكان يشعر بالغبطة والسرور والرضى النفسى كلما قرأ شيئا جديدًا .
حينما تغلق دار الكتب أبوابها يمر فى طريقه إلى البيت على مجلة ومطبعة الرسول ، فيرى صديقه محمد على غريب (تعرف عليه فى مكتبة أدبية بمدينة أسيوط يمت له صاحبها بصلة قرابة وأصبح منذ عام 1935 صاحب مجلات صوت الإسلام وغريب وابن مصر) وصاحب المجلة والمطبعة الأستاذ محمود رمزى نظيم فى عمل متصل فيجلس يقرأ أو يكتب وهو مفتون بحروف الطباعة وما تخرجه على الورق من ضروب الكلام .
كتب محمود البدوى مقالة عن الموسيقى ونشرت على عامود فى مجلة الرسول سنة 1930 ، وكتب مقالة أخرى عن الموسيقى والغناء وخجل أن يقدمها لأحد منهما وتركها على المكتب فى المجلة وانصرف ، ونشرت المقالة فى العدد التالى وتلقى هدية من أمير الشعراء أحمد شوقى ــ مسرحيات "مجنون ليلى" و"مصرع كليوباترا" لأنه ذكر فى المقال موسيقيا شابا من طلبة المعهد .
أهمل البدوى دراسته بالجامعة وكان لا يذهب إليها إلا قليلا ثم انقطع كلية عنها .
لم يرغب فى أن يكون عالة على والده فى القرية ، فيطعمه ويكسيه ويصرف عليه بعد أن شب وأصبح رجلاً ، ولم يكن من السهل عليه أن يتبطل ويعتمد فى معيشته على ما يرسله له والده من نقود ، وقرر أن يفعل شيئا وأن يخطو خطوة عملية ، فإتجه إلى الوظيفة كغيره من الشبان وترك الدراسة بالجامعة ، ولم يأسف على ذلك قط .
التحق بالعمل بقلم حسابات الحكومة بوزارة المالية فى 12/3/1932 بمرتب سبعة جنيهات ونصف ، وعمل بمصلحة الموانى والمنائر بمدينة السويس.
صدرت مجلة الرسالة فى 15 يناير 1933 وكان البدوى يقرأ الأدب الروسى مترجما إلى اللغة الإنجليزية بقلم الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنيت، كان يقرأ قصة الجورب الوردى لتشيكوف وترجمها وأرسلها إلى أستاذه الزيات بمقر المجلة بشارع حسن الأكبر فى حى عابدين ، ونشرت بالعدد العشرين فى 1/12/1933 وشجعه ذلك على أن يترجم غيرها وغيرها وهو ما يزال فى الرابعة والعشرين من عمره وهى سن صغيرة نسبيا لأولئك الذين كانت تتاح لهم فرصة الكتابة والنشر فى مجلة الرسالة التى كان يعتبر النشر فيها فى ذلك الوقت بمثابة شهادة ميلاد أديب متميز .
كان البدوى وهو فى مدينة السويس يرى المراكب تحمل خليطا غير متجانس من البشر ذاهبة إلى أوربا ، فولدت عنده الرغبة الشديدة فى أن يركبها ويجوب الآفاق .
عاد من السويس فى عام 1934 للعمل بمقر الوزارة بميدان اللاظوغلى وذهنه مشغول بالسفر إلى أوربا ، وكثرت الإعلانات فى الصحف والمجلات المصرية والأجنبية تشجع القراء على السفر إلى البلاد الأوربية وبجنيهات قليلة، وكان البدوى فى وفرة شبابه وفتوته وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين ومعه من المال ما يكفيه للطواف حول العالم ــ كما يقول سنة كاملة ــ فالكساد والبطالة يعمان العالم والأسعار رخيصة فى كل مكان .
سافر البدوى على متن باخرة رومانية أقلعت من ميناء الإسكندرية إلى اليونان ثم تركيا وإلى رومانيا والمجر عبر نهر الدانوب فى 3 أغسطس 1934 وعلى الظهر "الدك" بسبعة جنيهات مصرية ذهابا وإيابا ، ولكنه لم ينم على الظهر واستأجر قمرة بحار فى السفينة بجنيهين طوال الرحلة ، وكان ينزل إلى القاع ويختلط بالبحارة والوقادين وهم يجرفون الفحم ويغذون النار ، كانت المراكب وقتها تدار بالفحم ، ويقصون عليه حياتهم فى البحار .
عاد من هذه الرحلة متفتح المشاعر للكتابة ، فكتب رواية الرحيل (وهى قصة شاب سافر إلى أوربا الشرقية على ظهر مركب ويحكى فيها مشاعره وأحاسيسه طوال الرحلة وانطباعه عن البلاد التى زارها) وطبعها على حسابه بالمطبعة الرحمانية بالخرنفش عام 1935 على ورق رومان أغلى أنواع الورق ولم يتجاوز طبع القصة الجنيهات العشر وبعد هذا أخذ ذهنه يفكر ويشغل بتأليف القصص وانقطع عن الترجمة .
بدأ الأستاذ الزيات يعرفه كمؤلف وينشر له قصصه فى مجلته التى كان يصدرها وحده ، وأول قصة نشرت له فى المجلة باسم "الأعمى" ونشرت فى عددين 156 و157 بتاريخ 29/6 و6/7/1936 وقد تعلم البدوى من أستاذه الزيات أشياء كثيرة لعل أهمها الصبر والجلد فى العمل .
وبعد النشر فى مجلة الرسالة بدأ البدوى ينشر فى مجلة العصور ومعظم الصحف والمجلات المصرية تقريبا ، ولم يتوقف عن النشر ولم يشعر باليأس إطلاقا ، وآخر قصة كتبها ونشرت له بصحيفة مايو باسم "السماء لا تغفل أبدًا" بالعدد 602 فى 4/3/1985 وعمره ستة وسبعون عاما .
هو الكاتب المصرى الوحيد ــ كما قال عنه النقاد والأدباء ــ الذى لم يكتب غير القصة القصيرة ، وكان بإمكانه أن يجرب الكتابة فى فنون أدبية أخرى قد تدر عليه ربحا طائلا وقد تسهم فى تسليط الأضواء عليه وفى شهرته وفى ذيوع صيته ، لكنه آثر الفن والصمت وحبذ التفرغ للإبداع وارتضى العزلة موئلا ، فلم يسع وراء الأحاديث الصحفية أو الإذاعية أو التليفزيونية كى تنشر صورة وأقواله وأخباره .
طاف البدوى على كثير من بلاد العالم الخارجى فى رحلات ثقافية وغير ثقافية ولكنه لم يكتب إلا عن تلك التى استطاعت أن تحدث فى داخله هزة عميقة واستطاع أهلها أن يؤثروا فى عقله ووجدانه ، فصور بعض قصصه فى اليونان وتركيا ورومانيا والمجر والهند والصين وهونج كونج واليابان وسوريا والمغرب .
ومن الأشياء التى لم يحد عنها فى حياته ، أنه لم يسع لتقديم قصصه لغير أديب ، ولم يقدم قصصه إلا لمن يطلب منه ولعل هذا سببه أنه صاحب حياء شديد منذ صغره ولم يكن جسمه ولا روحه يتحملان صدمة أى رد فعل فيه رفض من أى إنسان .
كانت رحلته الثقافية الأولى فى ديسمبر 1957 إلى الهند والصين واليابان وقد ضمت خيرة رجال التعليم فى مصر ، وألقى عدة محاضرات على طلبة جامعة بكين عن « القصة فى الأدب المصرى » و« الأدب المصرى » و«الأدب والصحافة بعد الثورة » ونشرت الصحف الصينية مقتطفات منها وأجزاء منها بصحيفة الشعب المصرية فى 11/12/1957 .
كانت فلسفته فى الحياة أن يغرس وردة مكان كل شوكة .
والحكمة التى آمن بها من خلال رحلته فى الحياة .. أن كل شىء باطل ولا يتبقى فى الحياة إلا المحبة والخير والجمال .
وكانت أحلامه .. أن يسود السلام البشرية .. وأن يتحرر العالم من الفقر والجوع والاضطهاد وذل العبودية ، وأن يتحقق للإنسان حريته ككائن بشرى خلقه الله حرًا كريما ( وأن تصل أمتى إلى غايتها من الرقى والحضارة والخير لبنيها والبشرية جمعاء ) .
وكانت أحلامه كما سطرها فى مقدمة مجموعته القصصية عذارى الليل (العذراء والليل) (كتب للجميع العدد 99 فبراير 1956) .. "وأمنيتى ونحن نعيش فى قلب الحضارة ، ونسير فى ركابها .. أن تتطور بنا الحياة فى المستقبل.. وأن نطبع من الكتاب الواحد مليون نسخة .. وأمنيتى فى هذه الساعة أن يصل هذا الكتاب إلى أيدى الناس الذين أحببتهم وصورت حياتهم فى القرية والمدينة .. فإن هذا من أعظم المباهج للفنان .."
وكان يقول .. " لا أتصور أن كاتبا ينقب فى حياتى بعد موتى .. وحتى إن حاول أحد ذلك .. لن يجد فى بيتى ولا فى أهل بيتى ما يعينه على فهم أى شىء " وهذا ما دفعنى بمشاركة زوجتى إبنة الأديب الراحل (إلى تجميع جميع المقالات التى كتبها سواء فى الصحف والمجلات أو بخط يده وكذلك جميع ما كتب عنه وتلقى الضوء على حياته الخاصة والأدبية ليستطيع الأدباء والنقاد تفهم أصل الصورة المنعكسة فى مرايا قصصه وكتاباته) .
مازال البدوى يقال عنه الكثير
ولد فى قرية الأكراد مركز أبنوب بمديرية (محافظة) أسيوط فى 4 ديسمبر 1908 .
قضى طفولته كلها فى الريف حتى شهادة الابتدائية حصل عليها من مدرسة أسيوط الابتدائية ، ولما جاء إلى القاهرة لمواصلة التعليم الثانوى بالمدرسة السعيدية كان حريصا على قضاء كل أجازاته بين الفلاحين .
التحق بكلية الآداب إبان عمادة الدكتور طه حسين وترك الدراسة والتحق بالعمل فى وزارة المالية عام 1932 .
أطلق عليه بعض النقاد والدارسين لقب تشيكوف العرب ولقب راهب القصة القصيرة ولقب فارس القصة القصيرة ولقب رائد القصة القصيرة .
كتب ما يزيد على 375 قصة نشرت جميعها بالصحف والمجلات المصرية والعربية بالإضافة إلى المجلات المتخصصة كالرسالة والقصة والثقافة والأديب والهلال .
اصدرت له دور النشر 25 كتابا .
له كتاب واحد فى أدب الرحلات عن رحلته إلى الصين واليابان وهونج كونج .
حصل على ميدالية الإنتاج الأدبى والفنى من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب لمساهمته فى المناسبات الوطنية عام 1956 عن قصة «الماس» المنشورة بصحيفة الشعب ــ العدد 171 فى 13/11/1956.
حصل على جائزة الجدارة فى الفنون عام 1978 .
منح جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1986 .
منح اسمه بعد وفاته على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1988 .
رحل فى 12/2/1986 .
قامت الأسرة فى شهر سبتمبر من عام 1999 بإهداء مكتبته الخاصة إلى الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية . وتضم مجموعات قيمة من الكتب الأدبية ودواوين الشعر والروايات العربية والأجنبية لتكون تحت نظر الباحثين والدارسين فى فنون الأدب (وفاء منها لما قدمته الدار فى بداية حياة البدوى الأدبية) ووضعت فى قاعة المكتبات المهداة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق